فصل: حوادث سنة ثلاث وعشرين ومائتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر استيلاء عبد الرحمن على طليطلة:

قد ذكرنا عصيان أهل طليطلة على عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، وإنفاذ الجيوش إلى محاصرتها مرة بعد مرة، فلما كان سنة إحدى وعشرين وائتين خرج جماعة من أهلها إلى قلعة رباح، وبها عسكر لعبد الرحمن، فاجتمعوا كلهم على حصر كليكلة، وضيقوا عليهأن وعلى أهلهأن وقطعوا عنهم باقي مرافقهم واشتدوا في محاصرتهم، فبقوا كذلك إلى أن دخلت سنة اثنتين وعشرين.
فسير عبد الرحمن أخاه الوليد بن الحكم إليها أيضأن فرأى أهلها وقد بلغ بهم الجهد كل مبلغ، واشتد عليهم طول الحصار، وضعفوا عن القتال والدفع، فافتتحها قهراً وعنوةً يوم السبت لثمان خلون من رجب، وأمر بتجديد القصر على باب الحصن الذي كان هدم أيام الحكم، وأقام بها إلى آخر شعبان من سنة ثلاث وعشرين ومائتين، حتى استقرت قواعد أهلها وسكنوا.

.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود.
وفيها ظهر عن يسار القبلة كوكب، فبقي يرى نحواً من أربعين ليلة، وله شبه الذنب، وكان أول ما طلع نحوالمغرب، ثم رثي بعد ذلك نحوالمشرق، وكان طويلاً جدأن فهال الناس ذلك، وعظم عليهم. ذكره ابن أبي أسامة في تاريخه وهومن الثقات الأثبات.
وفيها توفي يحيى بن صالح أبوزكرياء الوحاظي، وهودمشقي، وقيل حمصي.
وفيها توفي أبوهشام محمد بن علي بن أبي خداش الموصلي؛ وكان كثير الرواية من المعافى بن عمران.

.حوادث سنة ثلاث وعشرين ومائتين:

.ذكر قدوم الأفشين ببابك:

في هذه السنة قدم الأفشين إلى سامرأن ومعه بابك الخرمي وأخوه عبد الله، في صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وكان المعتصم يوجه إلى الأفشين في كل يوم، من حين سار من برزند إلى أن وافى سامرأن خلعةً وفرسأن فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن المعتصم، وأهل بيت المعتصم، وأنزل الأفشين بابك عنده في قصره بالمطيرة، فأتاه أحمد بن أبي دؤاد متنكرأن فنظر إلى بابك وكلمه، ورجع إلى المعتصم فوصفه له، فأتاه المعتصم أيضاً متنكراً فرآه.
فلما كان الغد قعد المعتصم واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة، فشهره المعتصم، وأمر أن يركب على الفيل، فركب عليه، واستشرفه الناس إلى باب العامة، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعاداته ** يحمل شيطان خراسان

والفيل لا تخضب أعضاؤه ** إلا لذي شأن من الشأن

ثم أدخل دار المعتصم، فأمر بإحضار سياف بابك، فحضر، فأمره المعتصم أن يقطع يديه ورجليه، فقطعهأن فسقط، فأمره بذبحه، ففعل، وشق بطنه، وأنفذ رأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرأن وأمر بحمل أخيه عبد الله إلى أسحاق بن إبراهيم ببغداد، وأمره أن يفعل به ما فعل بأخيه بابك، فعمل به ذلك، وضرب عنقه، وصلبه في الجانب الشرقي بين الجسرين.
قيل فكان الذي أخرج الأفشين من المال مدة مقامه بإزاء بابك، سوى الأرزاق والأنزال والمعارف، في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم، وفي كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف، فكان جميع من قتل بابك في عشرين سنة مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفاً وخمس مائة إنسان، وغلب من القواد يحيى بن معاذ، وعيسى بن محمد بن أبي خالد، وأحمد بن الجنيد فأسره، وزريق بن علي بن صدقة، ومحمد بن حميد الطوسي، وإبراهيم بن الليث.
وكان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة أناسي، واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهن سبعة آلاف وستمائة إنسان، وصار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلأن ومن البنات والنساء ثلاث وعشرون امرأة.
ولما وصل الأفشين توجه المعتصم وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف ألف يفرقها في عسكره، وعقد له على السند، وأدخل عليه الشعراء يمدحونه.

.ذكر خروج الروم إلى زبطرة:

وفي هذه السنة خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام، وأوقع بأهل زبطرة وغيرها.
وكان سبب ذلك أن بابك لما ضيق الأفشين عليه، وأشرف على الهلاك، كتب إلى ملك الروم توفيل يعلمه أن المعتصم قد وجه عساكره ومقاتليه إليه، حتى وجه خياطه، يعني جعفر بن دينار الخياط، وطباخة، يعني إيتاخ، ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحد يمنعك.
وظن بابك أن ملك الروم إن تحرك يكشف عنه بعض ما هوفيه بإنفاذ العساكر إلى مقاتلة الروم، فخرج توفيل في مائة ألف، وقيل أكثر، منهم من الجند نيف وسبعون ألفأن وبقيتهم أتباع، ومعهم من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة، فبلغ زبطرة، فقتل من بها من الرجال، وسبى الذؤية والنساء، وأغار على أهل ملطية وغيرها من حصون المسلمين، وسبى المسلمات، ومثل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم، وقطع أنوفهم وآذانهم، فخرج إليهم أهل الثغور من الشام والجزيرة، إلا من لم يكن له دابة ولا سلاح.

.ذكر فتح عمورية:

لما خرج ملك الروم، وفعل في بلاد الإسلام ما فعل، بلغ الخبر إلى المعتصم، فلما بلغه ذلك استعظمه، وكبر لديه، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت، وهي أسيرة في أيدي الروم: وامعتصماه! فأجابها وهوجالس على سريره: لبيك لبيك! ونهض من ساعته، وصاح في قصره: النفير النفير، ثم ركب دابته، وسمط خلفه شكالأن وسكة حديد، وحقيبة فيها زاده، فلم يمكنه المسير إلا بعد التعبئة، وجمع العساكر، فجلس في دار العامة، وأحضر قاضي بغداد وهوعبد الرحمن بن إسحاق، وشعبه بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلاً من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثاً لولده، وثلثاً لله تعالى، وثلثاً لمواليه.
ثم سار فعسكر بغربي دجلة لليلتين خلتا من جمادى الأولى، ووجه عجيف بن عنبسة، وعمر الفرغاني، ومحمد كوتاه، وجماعة من القواد إلى زبطرة معونة لأهلهأن فوجدوا ملك الروم قد انصرف عنها إلى بلاده، بعدما فعل ما ذكرناه، فوقفوا حتى تراجع الناس إلى قراهم واطمأنوا.
فلما ظفر المعتصم ببابك قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية. فسار المعتصم من سر من رأى، وقيل كان مسيره سنة اثنتين وعشرين، وقيل سنة أربع وعشرين، وتجهز جهازاً لم يتجهزه خليفة قبله قط من السلاح، والعدد، والآلة، وحياض الأدم، والروايأن والقرب، وغير ذلك، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمد ابن إبراهيم بن مصعب، وعلى ميمنته إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار ابن عبد الله الخياط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة، فلما دخل بلاد الروم نزل على نهر السن، وهوعلى سلوقية، قريباً من البحر، وبينه وبين طرسوس مسيرة يوم، وعليه يكون الفداء.
وأمضى المعتصم الأفشين إلى سروج، وأمره بالدخول من درب الحدث، وسمى له يوماً يكون دخوله فيه، ويماً يكون اجتماعهم فيه، وسير أشناس من درب طرسوس، وأمره بانتظاره بالصفصاف، فكان مسير أشناس لثمان بقين من رجب، وقدم المعتصم وصيفاً في أثر أشناس ورحل المعتصم لست بقين من رجب.
فلما صار أشناس بمرج أسقف ورد عليه كتاب المعتصم من المطامير يعلمه أن ملك الروم بين يديه، وأنه يريد أن يكسبهم، ويأمر بالمقام إلى أن يصل إليه، فأقام ثلاثة أيام، فورد عليه كتاب المعتصم يأمره أن يوجه قائداً من قواده في سرية يلتمسون رجلاً من الروم يسألونه عن خبر الملك، فوجه أشناس عمر الفرغاني في مائتي فارس، فدخل حتى بلغ أنقرة، وفرق أصحابه في طلب رجل رومي، فأتوه بجماعة بعضهم من عسكر املك، وبعضهم من السواد، فأحضرهم عند أشناس، فسألهم عن الخبر، فأخبروه أن الملك مقيم أكثر من ثلاثين يوماً ينتظر مقدمة المعتصم ليواقعهم، فأتاه الخبر أن عسكراً عظيماً قد دخل بالدهم من ناحية الأرمنياق، يعني عسكر الأفشين؛ قالوا: فلما أخبر استخلف ابن خاله على عسكره، وسار يريد ناحية الأفشين، فوجه أشناس بهم إلى المعتصم، فأخبروه الخبر، فكتب المعتصم كتاباً إلى الأفشين يعلمه أن ملك الروم قد توجه إليه، ويأمره أن يقيم مكانه، خوفاً عليه من الروم، إلى أن يرد عليه كتابه، وضمن لمن يوصل كتابه إلى الأفشين عشرة آلاف درهم.
فسارت الرسل بالكتاب إلى الأفشين، فلم يروه لأنه أوغل في بلاد الروم، وكتب المعتصم إلى أشناس يأمره بالتقدم، فتقدم المعتصم من ورائه، فلما رحل أشناس نزل المعتصم مكانه، حتى صار بينه وبين أنقرة ثلاث مراحل، فضاق عسكر المعتصم ضيقاً شديداً من الماء والعلف.
وكان أشناس قد أسر في طريقه عدة أسرى، فضرب أعناقهم، حتى بقي منهم شيخ كبير، فقال له: ما تنتفع لقتلي، وأنت وعسكرك في ضيق، وها هنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفاً منكم، وهم بالقرب منأن معهم الطعام والشير وغيرهمأن فوجه معي قوماً لأسلمهم إليهم، وخل سبيلي! فسير معه خمسمائة فارس، ودفع الشيخ إلى مالك بن كيدر، وقال له: متى أراك هذا الشيخ سبياً كثيرأن أوغنيمة كثيرة، فخل سبيله.
فسار بهم الشيخ فأوردهم على واد وحشيش، فأمرجوا دوابهم، وشربوأن وأكلوأن وساروا حتى خرجوا من الغيضة، وسار بهم الشيخ حتى أتى جبالً، فنزله ليلأن فلما أصبحوا قال الشيخ: وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل، فينظران ما فوق، فيأخذان من أدركا! فصعد أربعة، فاخذوا رجلاً وامرأة، فسألهما الشيخ عن أهل أنقرة، وهم في طرف ملاحة، فلما رأوا العسكر أدخلوا النساء والصبيان الملاحة، وقاتلوهم على طرفهأن وغمن المسلمون منهم وأخذوا من الروم عدة أسرى وفيهم من فيه جراحات عتق متقدمة، فسألوهم عن تلك الجراحات، فقالوا: كنا في وقعة الملك مع الأفشين، وذلك أن الملك لما كان معسكراً أتاه الخبر بوصول الأفشين في عسكر ضخم من ناحية الأرمنياق، واستخلف على عسكره بعض أقربائه، وسار إليهم، فواقعناهم صلاة الغداة، فهزمناهم وقتلنا رجالتهم كلهم، وتقطعت عساكرنا في طلبهم. فلما كان الظهر رجع فرسانهم فقالتونا قتالاً شديداً حتى فرقوا عسكرنا واختلطوا بنأن فلم ندر أين الملك، وانهزمنا منهم، ورجعنا إلى معسكر الملك الذي خلقه، فوجدنا العسكر قد انتقض، وأصروا عن قرابة الملك.
فلما كان الغد جاء الملك في جماعة يسيرة فرأى عسكره قد اختل، وأخذ الذي كان استخلفه عليهم، فضرب عنقه، وكتب إلى المدن والحصون أن لا يأخذوا أحداً انصرف من العسكر إلا ضربوه بالسياط، وردوه إلى مكان سماه لهم الملك، ليجتمع إليه الناس، يلقى المسلمين، وإن الملك وجه خصياً له إلى أنقرة ليحفظ أهلهأن فرآهم قد أجلوا عنهأن فكتب إلى الملك بذلك، فأمره بالمسير إلى عمورية، فرجع مالك بن كيدر بما معهم من الغنيمة والأسرى إلى عسكر أشناس، وغمنوا في طريقهم بقرأن وغمناً كثيرأن وأطلق الشيخ، فلما بلغ مالك بن كيدر عسكر أشناس أخبره بما سمع، فأعلم المعتصم بذلك، فسر به.
فلما كان بعد ثلاثة أيام جاء البشير من ناحية الأفشين بخبر السلامة، وكانت الوقعة لخمس بقين من شعبان، فلما كان الغد قدم الأفشين على المعتصم وهوبأنقرة، فأقاموا ثلاثة أيام، ثم جعل المعتصم العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة، والمعتصم في القلب، وعسكر الأفشين في الميمنة، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمر كل عسكر أن يكون له ميمنة وميسرة، وأمرهم أن يحرقوا القرى، ويخربوهأن ويأخذوا من لحقوا فيهأن ثم ترجع كل طائفة إلى صاحبهأن يفعلون ذلك في ما بين أنقرة وعمورية، وبينهما سبع مرحل، ففعلوا ذلك حتى وافوا عمورية.
وكان أول من وردها أشناس، ثم المعتصم، ثم الأفشين، فداروا حولهأن وقسمها بين القواد، وجعل لكل واحد منهم أبراجاً منها على قدر أصحابه، وكان رجل من المسلمين قد أسره الروم بعمورية فتنصر، فلما رأى المسلمين خرج عليهم، فأخبر المعتصم أن موضعاً من المدينة وقع سوره في سيل أتاه، فكتب الملك إلى عامل عمورية ليعمره، فتوانى، فلما خرج الملك من القسطنطينية خاف العامل أن يرى السور خرابأن فبنى وجهه حجراً حجرأن وعمل الشرف على جسر خشب، فرأى المعتصم ذلك المكان، فأمر بضرب خيمته هناك، ونصب المجانيق على ذلك الموضع، فانفرج السور من ذلك الموضع.
فلما رأى الروم ذلك جعلوا عليه خشباً كباراً كل عود يلزق الآخر، وكان المنجنيق يكسر الخشب، فجعلوا عليه براذع، فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع تصدع السور، وكتب الخصي، وبطريق عمورية، واسمه ناطس، كتاباً إلى ملك الروم يعلمه أمر السور، وسيره مع رجلين، فأخذهما المسلمون، وسألهما المعتصم، وفتشهمأن فرأى الكتاب وفيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة، وقد كان دخوله إليها خطأن وأن ناطس عازم على أن يركب في خاصته ليلأن ويحمل على العسكر كائناً ما كان، حتى يخلص ويسير إلى الملك؛ فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر لهما ببدرة، وهي عشرة آلاف درهم، وخلع، فأسلمأن فأمر بهمأن فطافا حول عمورية، وأن يقفا مقابل البرج الذي فيه ناطس، فوقفا وعليهما الخلع، والأموال بين أيديهمأن فعرفهما ناطس ومن معه من الروم، فشتموهما.
وأمر المعتصم بالاحتياط في الحراسة ليلاً ونهارأن فلم يزالوا كذلك حتى انهدم السور ما بين برجين من ذلك الموضع، وكان المعتصم أمر أن يطم خندق عمورية بجلود الغمن المملوءة تراباً فطموه، وعمل دبابات كباراً تسع كل دبابة عشرة رجال ليدحرجوها على الجلود إلى السور، فدحرجوا واحدة منهأن فلما صارت في نصف الخندق تعلقت بتلك الجلود، فما تخلص من فيها إلا بعد شدة وجهد، وعمل سلاليم ومنجنيقات.
فلما كان الغد من يوم انهدم السور قاتلهم على الثلمة، فكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه، وكان الموضع ضيقأن فلم يمكنهم الحرب فيه، فأمدهم المعتصم بالمنجنيقات التي حول السور، فجمع بعضها إلى بعض حول الثلمنة، وأمر أن يرمي ذلك الموضع.
وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه، وأجادوا الحرب، وتقدموأن والمعتصم على دابته بإزاء الثلمة، وأشناس، والأفشين، وخواص القواد معه، فقال المعتصم: ما أحسن ما كان الحرب اليوم! وقال عمر الفرغاني: الحرب اليوم أجود منها أمس، فأمسك أشناس.
فلما انتصف النهار، وانصرف المعتصم والناس، وقرب أشناس من مضربه، ترجل له القواد، كما مانوا يفعلون، وفيهم الفرغاني، وأحمد ابن الخليل بن هشام، فقال لهم أشناس: يا أولاد الزنا! ايش تمشون بين يدي، كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين، فتقلون الحرب اليوم أجود منها أمس؛ كان يقاتل أمس غيركم، انصرفوا إلى مضاربكم، فلما انصرف الفرغاني، وأحمد بن الخليل، قال أحدهما للأخر: إلا ترى إلى هذا العبد ابن الفاعلة، يعني أشناس، ما صنع اليوم؟ أليس الدخول إلى الروم أهون من هذا؟ فقال الفرغاني لأحمد، وكان عنده علم من العباس بن المأمون: سيكفيك الله أمره عن قريب، فألح أحمد عليه، فأخبره، فأشار عليه أن يأتي العباس فيكون في أصحابه، فقال أحمد: هذا أمر أظنه لا يتم، قال الفرغاني: قد تم، وأرشده إلى الحارث السمرقندي فأتاه، فرفع الحارث خبره إلى العباس، فكره العباس أن يعلم بشيء من أمره، فأمسكوه عنه.
فلما كان اليوم الثالث كان الحرب على أصحاب المعتصم، ومعهم المغاربة والأتراك، وكان القيم بذلك إيتاخ، فقاتلوأن وأحسنوأن واستع لهم هدم السور، فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت الجراحات في الروم.
وكان بطارقة الروم قد اقتسموا أبراج السور، وكان البطريق الموكل بهذه الناحية وندوأن وتفسيره ثور، فقاتل ذلك اليوم قتالاً شديدأن وفي الأيام قبله، ولم يمده ناطس، ولا غيره بأحد، فلما كان الليل مشى وندوا إلى الروم فقال: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلا جرح، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلأن وإلا ذهبت المدينة؛ فلم يمدوه بأحد وقالوا: لا مندك ولا تمدنأن فعزم هووأصحابه على الخروج إلى المعتصم يسألونه الأمان على الذرية، ويسلمون إليه الحصن بما فيه.
فلما أصبح وكل أصحابه بجانبي الثلمة وأمرهم أن لا يحاربوأن وقال: أريد الخروج إلى المعتصم، فخرج إليه فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة، وقد أمسك الروم عن القتال، حتى وصلوا إلى السور، والروم يقولون: لا تخشوأن وهم يتقدمون، ووندوا جالس عند المعتصم، فأركبه فرسأن وتقدم الناس حتى صاروا في الثلمة وعبد الوهاب بن علي بين يدي المعتصم يومئ إلى المسلمين بالدخول، فدخل الناس المدينة، فالتفت وندوا وضرب بيده على لحيته، فقال له المعتصم: ما لك؟ قال: جئت أسمع كلامك، فغدرت بي، قال المعتصم: كل شيء تريده فهولك، ولست أخالفك؛ قال: ايش تخالفني، وقد دخل الناس المدينة.
وصار طائفة كبيرة ن الروم إلى كنيسة كبيرة لهم، فأحرقها المسلمون عليهم، فهلكوا كلهم؛ وكان ناطس فر برجه، حوله أصحابه، فركب المعتصم ووقف مقابل ناطس، فقيل له: يا ناطس! هذا أمير المؤمنين، وظهر من البرج وعليه سيف، فنحاه عنه، ونزل حتى وقف بين يديه، فضربه سوطأن وسار المعتصم إلى مضربه، وقال: هاتوه! فمشى قليلأن فأمر المعتصم بحمله، وأخذ السيف الروم، وأقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه، فأمر المعتصم أن يعزل منهم أهل اشرف، ونقل من سواهم، وأمر ببيع المغامن في عدة مواضع، فبيع منها في أكثر من خمسة أيام، وأمر الباقي فأحرق.
وكان لا ينادي على شيء أكثر من ثلاثة أصوات ثم يوجب بيعه، طلباً للسرعة؛ وكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة، طلباً للسرعة، ولما كان، في بعض الأيام، بيع المغامن، وهوالذي كان عجيف وعد الناس أن يثور فيه بالمعتصم على ما نذكره، وثب الناس على المغامن، فركب المعتصم، والسيف في يده، وسار ركضاً نحوهم، فتنحوا عنهأن وكفوا عن النهب، فرجع إلى مضربه، وأمر بعمورية فهدمت وأحرقت، وكان نزوله عليها لست خلون من شهر رمضان، وأقام عليها خمسة وخمسين يوماً، وفرق الأسرى على القواد، وسار نحوطرسوس.

.ذكر حبس العباس بن المأمون:

في هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون، وأمر بلعنه.
وكان سبب ذلك أن عجيف بن عنبسة لما وجهه المعتصم إلى بلاد الروم لما كان ملك الروم بزبطرة، مع عمر الفرغاني ومحمد كوتاه، لم يطلق يد عجيف في النفقات، كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله، وظهر ذلك لعجيف. فوبخ العباس بن المأمون على ما تقدم من فعله عند وفاة المامون، حتى بايع المعتصم، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه.
فقبل العباس قوله، ودس رجلاً يقال له الحراث السمرقندي، قرابة عبيد الله بن الوضاح، وكان العباس يأنس به، وكان الحارث أديباً له عقل ومداراة، فجعله العباس رسوله، وسفره إلى القواد، وكان يدور في العسكر، حتى استمال له جماعة من القواد، وبايعوه، وجماعة من خواص المعتصم، وقال لكل من بايعه: إذا أظهرنا أمرنا فليثب كل منكم بالقائد الذي هومعه، فوكل من بايعه من خواص المعتصم بقتله. ومن بايعه من خاصة الأفشين بقتله، ومن بايعه من خاصة أشناس بقتله، وكذلك غيرهم، فضمنوا له ذلك.
فلما دخل الردب، وهم يريدون أنقرة وعمورية، دخل الأفشين من ناحية ملطية، فأشار عجيف على العباس أن يثب بالمعتصم في الدرب، وهوفي قلة من الناس، فيقتله ويرجع إلى بغداد، فإن الناس يفرحون بانصرافهم إلى بغداد من الغزو، فأبى العباس ذلك، وقال: لا أفسد هذه الغزاة، حتى دخلوا بلاد الروم، وافتتحوا عمورية، فقال عجيف للعباس: يا نائم! قد فتحت عمورية، والرجل مكن، تضع قوماً ينهبون بعض الغنائم، فإذا بلغه ذلك ركب في سرعة، فتأمر بقتله هناك؛ فأبى عليه، وقال: انتظر حتى يصير إلى الدروب، ويخلوكما كان أول مرة، وهوأمر ممكن منه ها هنا.
وكان عجيف قد أمر من ينهب المتاع، ففعلوأن وركب المعتصم، وجاء ركضأن وسكن الناس، ولم يطلق العباس أحداً من أولئك الذين واعدهم، وكرهوا قتله بغير أمر العباس.
وكان الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، وله قرابة غلام أمرد من خاصة المعتصم، فجاء الغلام إلى ولد عمر الفرغاني، وشرب عندهم تلك الليلة، فأخبرهم خبر ركوب المعتصم، وأنه كان معه، وأمره أن يسل سيفه ويضرب كل من لقيه، فسمع عمر ذلك من الغلام، فأشفق عليه من أن يصاب، فقال: يا بني! أقلل من المقام عند أمير المؤمنين، والزم خيمتك، وإن سمعت صيحة وشغباً فلا تبرح فإنك غلام غر، ولا تعرف العساكر، فعرف مقالة عمر.
وارتحل المعتصم إلى الثغور، ووجه الأفشين ابن الأقطع، وأمره أن يغير على بعض المواضع، ويوافيه في الطريق، فمضى وأغار، وعاد إلى العسكر في بعض المنازل ومعه الغنائم، فنزل بعسكر الأفشين، وكان كل عسكر على حدة، فتوجه عمر الفرغاني، وأحمد بن الخليل من عسكر أشناس إلى عسكر الأفشين ليشتريا من السبي شيئأن فلقيهما الأفشين فترجلأن وسلما عليه، وتوجها إلى الغنيمة، فرآهما صاحب أشناس، فأعلمه بهمأن فأرسل أشناس إليهما بعض أصحابه لينظر ما يصنعان، فجاء فرآهما وهما ينتظران بيع السبي، فرجع فأخبر أشناس الخبر، فقال أشناس لحاجبه: قل لهما يلزما العسكر، وهوخير لهمأن فاغتما لذلك، واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر، فيستعفياه من أشناس، فأتياه وقالا: نحن عبيد أمير المؤمنين، فضمنا إلى من شاء، فإن هذا الرجل يستخف بنأن قد شتمنأن وتوعدنأن نحن نخاف أن يقدم علينا فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أراد.
فأنهى ذلك إلى المعتصم، واتفق الرحيل، وسار أشناس والأفشين مع المعتصم، فقال لأشناس: أحسن أدب عمر وأحمد، فإنهما قد حمقا أنفسهما! فجاء أشناس إلى عسكره، فأخذهمأن وحبسهمأن وحملهما على بغل، حتى صارا بالصفصاف، فجاء ذلك الغلام، وحكى للمعتصم ما سمع من عمر الفرغاني في تلك الليلة، فأنفذ المعتصم بغأن وأخذ عمر من عند أشناس، وسأله عن الذي قاله لغلام، فأنكر ذلك، وقال: إنه كان سكران، ولم يعلم ما قلت، فدفعه إلى إيتاخ؛ وسار المعتصم، فأنفذ أحمد بن الخليل إلى أشناس يقول له: إن عندي نصيحة لأمير المؤمنين، فبعث إليه يسأله عنهأن فقال: لا أخبر بها إلا أمير المؤمنين، فحلف أشناس: إن هولم يخبرني بهذه النصيحة لأضربنه بالسياط حتى يموت.
فلما سمع ذلك أحمد حضر عند أشناس، وأخبره خبر العباس بن المأمون، والقواد، والحارث السمرقندي، فأنفذ أشناس، وأخذ الحارث وقيده وسيره إلى المعتصم، وكان قد تقدم، فلما دخل على المعتصم أخبره بالحال جميعه، وبجميع من بايعهم من القواد وغيرهم، فأطلقه المعتصم، وخلع عليه، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم.
وأحضر المعتصم العباس بن المأمون وسقاه حتى سكر، وحلفه أن لا يكتمه من أمره شيئأن فشرح له أمره كله مثل ما شرح الحارث، فأخذه وقيده وسلمه إلى الأفشين، فحبسه عنده.
وتتبع المعتصم أولئك القواد، وكانوا يحملون في الطريق على بغال بلا وطاء، وأخذ أيضاً الشاه بن سهل، وهومن أهل خراسان، فقال له المعتصم: يابن الزاني! أحسنت إليك فلم تشكر؛ فقال: ابن الزانية هذأن وأومأ إلى العباس، وكان حاضرأن لوتركني ما كنت الساعة تقدر أن تجلس هذا المجلس، وتقول هذا الكلام! فأمر به فضربت عنقه، وهوأول من قتل منهم، ودفع العباس إلى الأفشين.
فلما نزل منبج طلب العباس بن المأمون الطعام، فقدم إليه طعام كثير، فأكل ومنع الماء، وأدرج في مسح، فمات بمنبج، وصلى عليه بعض إخوته.
وأما عمر الفرغاني فلما وصل المعتصم إلى نصيبين حفر له بئرأن وألقاه فيها وطمها عليه.
وأما عجيف فمات بباعيناثا من بلد الموصل، وقيل بل أطعم طعاماً كثيرأن ومنع الماء، حتى مات بباعيناثا.
وتتبع جميعهم، فلم يمض عليهم إلا أيام قلائل حتى ماتوا جميعاً، ووصل المعتصم إلى سامرا سالمأن فسمى العباس يومئذ اللعين، وأخذ أولاد المأمون من سندس، فحبسهم في داره حتى ماتوا بعد. ومن أحسن ما يذكر أن محمد بن علي الإسكافي كان يتولى إقطاع عجيف، فرفع أهله عليه إلى عجيف، فأخذه، وأراد قتله، فبال في ثيابه خوفاً من عجيف، ثم شفع فيه، فقيده وحبسه، ثم سار إلى الروم، وأخذه المعتصم، كما ذكرنأن وأطلق من كان في حبسه، وكانوا جماعة نهم الإسكافي، ثم استعلم على نواح بالجزيرة، ومن جملتها باعيناثا. قال: فخرجت يوماً إلى تل باعيناثأن فاحتجت إلى الوضوء، فجئت إلى تل فلبت عليه، ثم توضأت ونزلت، وشيخ باعيناثا ينتظرني، فقال لي: في هذا التل قبر عجيف، وأرانيه، فإذا أنا قد بلت عليه، وكان بين الأمرين سنة لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً.